التحاسد بين العلماء
إن الحمد لله نحمده ، و نستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأ شهد أ ن محمداً عبدُه و رسولُه .
والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سلك سبيله واهتدى بِهُداهُ إلى يوم الدين.
رأى أهل الرأي في هذه المجلة المباركة أن صنوف العلم متكاملة متراكبة لا تثمر أحداها إلا بإمتزاجها بالقليل من هذا الباب وذاك ، ولا بد من حديث قَلبٍ أو تَدّبُرِ رأي ، والتمعنُ والتَفكرُ فيما يدور حولنا وما يَطرأُ علينا ، فَشَرَفوني بالتكليف ، فسارعت للخيرات رَغَباً بما عندَ الله ، مآزراً لرأيهم ، طامعاً بِغُفرانٍ من ربّي ومَثُوبَة.
أقول : هذا جهد المُقِّل فإقبلوه منّا ، سنلتقي في هذا المنبر بإذن الله ، نلبس رداء ابن الجوزية بِمُصَنَفِهَ - صيد الخاطر ، إسماً ، نستلهم ونلتمس تأملاتٍ وحكماً ونَقتبِسُ من أهل العلم فَضائِلَ عِلمِهم ، ونَتَطلّعُ لعُلو منازِلِهم .
لقاؤنا اليوم مع ابن الجوزية ، عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي - أبو الفرج - رحمه الله ، ومع مصنفه صيد الخاطر وتحديداً في فصل حقيقة زهد العلماء ، حيث اشار رحمه الله الى أمور عظيمة هداه الله لها ، حيث قال :
تأملت التحاسد بين العلماء فرأيت منشأه من حب الدنيا فإن علماء الآخرة يتوادون ولا يتحاسدون كما قال عز وجل: " وَلاَ يَجدُون في صُدُورِهِمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا ".
- الآية : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) : الحشر : 9
ثم يقول رحمه الله : والأمر الفارق بين الفئتين، أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرياسة فيها ويحبون كثرة الجمع والثناء ، وعلماء الآخرة بمعزل من إيثار ذلك وقد كانوا يتخوفونه ويرحمون من بلي به.
أقول : حكمة عظيمة وفهم طيب أجراه الله تعالى على لسان هذا العالم الرباني الفَذّ ، ونحن أحوَجُ ما نكون لتأمل مثل هذه القراءات وتدبرها ، فنحن هنا ضمن مجتمع علمي ، نسعى بأمور دنيانا ، نتعلّم ونودِع عند المُتَعَلمين ، وتتدافع بين جنبات هذا الصرح العلمي فئام من الخلق بين هذا ( المعلم ) و ذاك ( المتعلم ) ، و نتدافع أبواب العلوم بيننا بين أخذ ورد ، تطور وتراجع ، نمو وخمول ، وبين الفينة و الأخرى تلمع نجوم ساطعات لإخوة أبدعوا يتحلق حولهم طلابهم ومريديهم ينهلون مما يودَعُ لهم من علم نافع طيب ، هو ثمار جهد وبذل وسهر لكلا الطرفين – بتوفيق من الله – .
أقول : يودع لهم ولا يعطى لهم ، فما اودع لديك من العلم تعمل به وتودعه لغيرك فضلاً من الله ورحمة ، لا منّا و لا تفضلاً.
فلا يظنن هذا او ذاك أن ما به هو من عند نفسه ... بل لا بد ان يوقن ويعتقد راضياً بانه فضل وتوفيق ملدن رب السموات العُلى ، توفيقاً وتفهيماً وترسيخاً ومحبة ، فهو سبحانه يشتري منا ما وَهَبَنا ، ويطرح محبتنا وقَبولنا في قلوب عباده ، رَحمةً وفَضلاً ملدنه .
ولا بد ان يكون هذا اليقين المطابِقُ للحقِ رادعاً لنا عن التهافتِ على الرِياسة والكِبر و التَحاسُد والتَنافُر والتَناحر وطَلب بارقاتِ الفَضلِ حولنا وإستمراء المدح والثناء ، بل تخوّفٌ من كلِ ذلك وهَجرٌ له وإدبارٍ عنه والسَعيُ لإحتِضانِ و تَفَهيم من إبتُلي بها.
أقول : شتان ما بين طالب الثناء ( الصيت والشهرة ) ومُتلقي وقابل الثناء الطَيِّب.
وفي معجم المعاني الجامع
الثَّناء : المدح
الثَّناء : المَدْح ، والتقريظ والتَقْديرٌ والتَبْجِيلٌ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ] حديث[
أثنى عليه ثناءً عَطِرًا / أثنى عليه عاطِرَ الثَّناء : بالغ في مدحه وإطرائه ،
ثناء : صيت ، شُهْرة ، سمعة حسنة
- الحديث : قال أحمد في "مسنده" (6/18) : حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة ، قال : أخبرني أبو هانئ حميد بن هانئ ، عن عمرو بن مالك الجنبي حدثنا ، أنه سمع فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في الصلاة ولم يذكر الله عز وجل ، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجل هذا " ، ثم دعاه ، فقال له ولغيره : " إذا صلى أحدكم ، فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ليدع بعد بما شاء " .
حديث حسن لذاته ، لأجل حميد بن هانئ وهو صدوق لا بأس به ، والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، واجتباه النسائي ، وقال الترمذي : "حسن صحيح" .
أقول : إن الحق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صُنع إليه معروف فقال لفاعله : جزاك الله خيراً فقدأ بلغ في الثناء ". رواه الترمذي
فجزاء العمل يكون عند الله تبارك وتعالى ، فمن كان من علماء الآخرة فيكفيه عظيم الجزاء من الله بدعاءِ أخيه ، وينال بالغ الثناء في ثنايا دعائه ، ومن كان من علماء الدنيا إستَزاد من ثَناء الناسِ له كِبراً ، مُغفِلاً حُسنَ دُعاء أخيه وما فيه من عظيم جَزاءِ ربهِ وبالِغِ الثناء في طَياتِه.
رضي الله عن علي إبن أبي طالب ، قال :
العلم زين فكن للعلم مكتسباً
وَكُنْ لَهُ طالبا ما عشْتَ مُقْتَبِسا
اركن إليه وثق بالله واغنَ به
وكن حليماً رزين العقل محترسا
وَكُنْ فَتًى ماسكا مَحْضَ التُّقى ورعا
للدِّيْنِ مُغْتَنِما لِلْعِلْمِ مُفْتَرسا
فمن تخلقَ بالآداب ظلَّ بها
رَئِيْسَ قَوْمٍ إِذَا ما فارق الرؤسا
وحيث ان المقام لا يتسع لتفصيل المقال ، واللبيب بالإشارة يَفهَمُ ، نترك بإذن الله ، لكم تَدَبُر المُرام من هذا المقال ، ونستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نارت يحيى لبزو
عمان في الرابع عشر من آذار للعام 2014
........
نشر في مجلة الموقع لشهر ابريل 2014
.......
- 1
0 تعليقات
Recommended Comments
لاتوجد تعليقات لعرضها .